كلمة افتتاحية جلد الأول

في عصورٍ كانت الكلمة فيها نبع الحكمة، والفكر سلاحًا للنهوض، ارتقى الإنسان بمعارفه ومناقشاته، راسمًا ملامح حضارةٍ صنعتها الأفكار قبل الأدوات.

في عصورٍ كانت الكلمة فيها نبع الحكمة، والفكر سلاحًا للنهوض، ارتقى الإنسان بمعارفه ومناقشاته، راسمًا ملامح حضارةٍ صنعتها الأفكار قبل الأدوات. واليوم، في عالمٍ تتداخل فيه الأصوات وتتسارع فيه الأحداث، يبقى للحوار الهادئ، والبحث العميق، والرؤية المتوازنة دورٌ محوريٌ في بناء المستقبل وصون القيم.إننا في زمنٍ يحتاج فيه العقل إلى ساحاتٍ رحبةٍ للتفكير، والمساحات الثقافية إلى نوافذ مشرقة تتيح للآراء المختلفة أن تلتقي، لا لتتصادم، بل لتتحاور وتتلاقح. وهنا تظهر أهمية المنابر الفكرية التي تؤمن بالتنوع، وترى في الاختلاف مصدرًا للإثراء لا للفرقة.

من بين طيات الماضي المشرق ومن عمق الحاضر المتجدد، تنطلق مجلة «شذرات» الفکریة لتكون سفيرًا للكلمة الهادفة، ومنبرًا للفكر المنهجي الذي يجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم. إنها مجلة نستلهم من صفحاتها إشراقات التراث الإسلامي العظيم الذي هو إرث مشترك لكل المسلمين، على اختلاف مشاربهم وتعدد مدارسهم.تأتي شذرات، الصادرة من رحاب العتبة العلوية المقدسة، في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى الكلمة التي توحد الصفوف، وتعيد الاعتبار لقيم الحوار والتسامح والإبداع. إن الهدف الأساسي من هذه المجلة هو تقديم قراءة معاصرة للتراث الإسلامي، الذي لطالما كان منارةً للعلم والمعرفة، وإبراز دوره في إغناء الحضارة الإنسانية، بعيدًا عن النزاعات الفكرية الضيقة التي قد تشتت الجهود وتضعف الأمة.وما يميز هذه المجلة عن نظيراتها هو التزامها بمبدأ الانفتاح الفكري، حيث تسعى لإعطاء المجال للأفكار والآراء المختلفة، بل والمتناقضة أحيانًا، لإيمانها بأن تنوع الآراء يثري الحوار ويعمق فهم القضايا. كما تفخر المجلة بمشاركة نخبة من الكتاب والمفكرين من شتى بقاع العالم، ما يجعلها جسرًا للتواصل بين ثقافات متعددة، ومنبرًا عالميًا يعكس تنوع الحضارة الإسلامية وامتدادها عبر الحدود.

في العدد الأول، سعينا إلى أن تكون “شذرات” أشبه بمرآة تعكس تنوع الجوانب الثقافية والفكرية في مجتمعاتنا. ستجدون في صفحاتها مقالاتٍ تغوص في أعماق التراث، وأخرى تنظر إلى الحاضر بعينٍ ناقدة، إلى جانب دراسات تبحث عن أجوبة لأسئلة العصر، مستمدة من روح الإسلام السمح وتعاليمه التي أعلت من شأن العلم والعقل والإنسان.إننا نؤمن بأن الحوار هو المفتاح لفهم مشترك أكثر عمقًا وثراءً. لذلك، حرصنا في هذا العدد على أن نقدم محتوى يفتح أبواب النقاش البناء ويعكس القيم التي تجمعنا، لنؤكد مجددًا أن تنوع الأفكار مصدر قوة لا ضعف، وجسر للتواصل لا حاجز للاختلاف.

في هذا العدد، نُعنى بمناقشة قضية أخلاقية هامة في ظل التحديات المعاصرة التي يواجهها العالم: “أخلاقيات الحرب في الأديان”. هذا الموضوع ليس مجرد نقاش فلسفي، بل هو قضية حيوية تتعلق بالممارسات المعاصرة في الحروب، حيث تُظهر الحروب الحديثة، مثل ما جری في غزة، غيابًا واضحًا للأخلاقيات الإنسانية في ممارسات القتل والدمار التي تُستخدم ضد الأبرياء. في هذا السياق، نرى أن الأخلاقيات أصبحت اليوم أكبر الغائبين في النزاعات العسكرية.لقد أظهرت الحروب المعاصرة، بما في ذلك المذبحة الصهيونية ضد الفلسطينيين، كيف أنَّ الجوانب الأخلاقية قد تم تهميشها أو تجاهلها في ظل تصاعد العنف والدمار. في هذا الصدد، يُلاحظ أنَّ العديد من المفكرين(کالدكتور حميد دباشي)، قد أشاروا إلى الانهيار الأخلاقي في الفلسفة الغربية، لا سيما في مواقفهم من الحرب في غزة.

في وقتٍ شهدت فيه العديد من القيم الإنسانية والفلسفية الغربية تدهورًا واضحًا، كانت الحروب المعاصرة، بما في ذلك الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين، هي المثال الأبرز على هذا الانحطاط الأخلاقي. إذ يمكن القول إنَّ الغزو العسكري في غزة يكشف عن التناقضات العميقة في الفلسفة الغربية التي كانت تُقدِّم نفسها مثلاً للإنسانية، بينما تغض الطرف عن جرائم الحرب المرتكبة ضد المدنيين الأبرياء.إنَّ هذا التدهور الأخلاقي لا يُعدُّ مجرد زلّة سياسية أو نقطة عمياء في الفكر الغربي، بل هو علامة على الانحطاط الأخلاقي العميق الذي يعيشه بعض الفلاسفة الغربيین، الذي يبرز العنصرية والتفرقة على قلب الفكر الفلسفي الغربي. ففي وقتٍ كان فيه الفلاسفة الأوروبيون يروجون لمفاهيم حقوق الإنسان والعدالة، نجد أنَّهم كانوا في ذات الوقت يتورطون في انتهاك هذه الحقوق على أرض الواقع، خصوصًا في المناطق التي شهدت الاحتلال والاستعمار. فإذَن يُعدُّ الانحطاط الأخلاقي في الحروب أحد أبرز التحديات التي يجب أن نواجهها، ليس فقط على مستوى الفلاسفة أو الأكاديميين، بل أيضًا على مستوى الشعوب التي تعاني من ويلات الحروب.من خلال هذا العدد، نهدف إلى تسليط الضوء على هذا الموضوع الحيوي، من خلال دراسة أخلاقيات الحرب في الأديان المختلفة، ومقارنة ما يُعرض في الفكر الإسلامي مقارنةً بالفكر الغربي في هذا الشأن. نؤمن أنَّ فهم أخلاقيات الحرب في الإسلام والتصور الإسلامي للعدالة في أوقات الصراع، يُعدُّ أمرًا بالغ الأهمية لفهم كيفية تطبيق هذه المبادئ في الحروب الحديثة.

نأمل أن يُسهم هذا العدد في إعادة النظر في فلسفة الحرب، وأن يُسهم في فتح أبواب الحوار بين الثقافات المختلفة حول كيفية التعامل مع النزاعات العسكرية بطريقة أخلاقية وإنسانية. إنَّ مشکلة الحروب لا تُحلُّ بالتدمير، بل بالعدالة والرحمة والاحترام المتبادل.

وعليه حاولنا في المجلة:

  1. دعوة جميع المفكرين إلى الكتابة وفي الوقت ذاته بذل اهتمام خاص بالآراء المخالفة، لأننا نؤمن بأن صدور المجلة من العتبة العلوية المقدسة يضفي عليها بُعدًا خاصًا يجعل الحوار محورًا أساسيًا في رؤيتها. فالعتبة العلوية، بما تمثله من رمزٍ للفكر العميق والحكمة النابعة من شخصية الإمام علي بن أبي طالب (ع)، تُعدّ منبعًا للإلهام في قيم الحوار، التسامح، والانفتاح على الآراء المتنوعة. الإمام علي (ع)، الذي عُرف بحكمته وبلاغته، كان نموذجًا للإنصات إلى الآخرين، والتفاعل مع الأفكار المختلفة، وإعلاء شأن العقل والعلم.
  2. حاولنا التعاون مع كُتّابٍ من جميع الدول، خاصة الإسلامية منها، بغض النظر عن أي دين أو مذهب، وفي عددنا الأول نجحنا في جمع عدد من الكتاب والخبراء وأهل العلم من 16 دولة حول العالم، بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والدينية وحصلنا على مقالات منهم.
  3. بينما تحاول معظم المجلات الترويج والدعاية لخط فكري معين، فإننا نظرا الى التنوع والتعدد الموجود في الدول الإسلامية ومن خلال التأكيد على مبدأ الحوار، نحاول الاستفادة من كافة الأفكار والمواضيع البحثية والعلمية. وعلى هذا الأساس، حتى لو كانت المقالة أو المشاركة تتعارض مع آراء وأفكار القّيمين على المجلة، فإننا لم نتجاهلها واكتفينا فقط بالتأكيد على الجميع تقديم مقال بمنهجية بحثية سليمة. لأننا نعتبر المنهجية أحد المعايير المهمة لإيجاد إمكانية الحوار. إن المقال الذي يكتب بلا منهج ويعتمد فقط الوصول إلى هدف معين، يفتقد إمكانية المعارضة أو التأييد. ومثل هكذا مقال يمكن الاستفادة منه فقط في البيانات السياسية للأحزاب وليس للمجلات التي تحاول تسليط الضوء على الحقيقة من خلال الحوار.
  4. مقدماً، نستبق الحدث ونشد أيدينا بحرارة على أيدي النقاد، وفي حال تمت كتابة انتقادات لمقالات مجلتنا فإننا جاهزون لنشرها في أعدادنا القادمة، بشرط مراعاة أصلين مهمين أولهما الاحترام المتبادل وثانيهما مراعاة المنهجية. وبهذا نحاول التعويض عن أخطائنا المحتملة ونبقي باب الحوار مفتوحاً.

ختامًا، نتمنى أن تجدوا في هذا الإصدار الأول من مجلة شذرات ما يُغني الفكر ويثري الروح، وأن تكون هذه الصفحات فضاءً رحبًا للتأمل، ومساحةً للإبداع الذي يبني حاضرنا ويُنير مستقبلنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *