مقدمة
في إطار الحرب المستمرة على غزة وما تشهده من تداعيات إنسانية وعسكرية خطيرة، تبرز العديد من القضايا الأخلاقية والقانونية التي تتطلب تحليلاً دقيقًا. في هذا الحوار المميز، يلتقي شذرات مع الدكتور معتز الخطیب، الباحث والمفكر المتخصص في قضايا القانون الدولي وحقوق الإنسان، لتسليط الضوء على الأبعاد الأخلاقية لهذه الحرب وتقديم تفسير معمق حول المسائل القانونية المتعلقة بالصراعات المسلحة.
الدكتور معتز الخطیب هو أكاديمي وخبير في مجالات الأخلاق وحقوق الإنسان، وله إسهامات بارزة في تحليل قضايا الصراعات والحروب من منظور أخلاقي وقانوني. يعتبر الدكتور الخطیب من أبرز الأصوات في مناقشة تأثيرات الحروب على حقوق الإنسان، ولديه رؤية نقدية حول كيفية تطبيق معايير العدالة الإنسانية في الظروف المعقدة التي تطرأ خلال النزاعات المسلحة.
في هذا الحوار، يجيب الدكتور الخطیب على أسئلة جوهرية تتعلق بمفاهيم النية العسكرية والقيم الأخلاقية في الحروب، كما يناقش كيفية استخدام بعض المصطلحات مثل “الأضرار الجانبية” و”الدروع البشرية” لتبرير استهداف المدنيين في النزاعات المسلحة. يقدم الدكتور تحليلًا معمقًا لكيفية استخدام بعض الدول لهذه المفاهيم لتخفيف مسؤوليتها عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في مناطق النزاع، ويفحص دور القانون الدولي في تقليص معاناة المدنيين وضمان العدالة في فترات الحرب.
الحرب على غزة تقدم مثالاً حيا على هذه الإشكاليات، حيث تُستخدم العديد من الحجج الأخلاقية لتبرير العنف المستمر ضد المدنيين. يناقش الدكتور الخطیب في هذا الحوار كيف يمكن أن تؤثر هذه التصريحات على الرأي العام الدولي، وما هو دور القانون الدولي الإنساني في حماية المدنيين ومحاسبة الجناة على جرائم الحرب.
من خلال هذا الحوار، يسعى الدكتور معتز الخطیب إلى تقديم رؤية شاملة تتعلق بالأبعاد الأخلاقية و القانونية للحروب الحديثة، مُؤَكِّدًا على ضرورة تحقيق العدالة والاعتراف بمسؤولية الدول في احترام القانون الدولي وحماية المدنيين في الحروب.
- شذرات: نحن نعلم أن موضوع “أخلاقيات الحرب” موضوع شائك ومركب، خاصة في ظلّ الحروب المعاصرة التي يشنها العديد من الدول. في أیام الهجوم الإسرائیلي علی غزة، كان الخطاب الإسرائيلي حول الحرب يتضمن استحضارًا للنصوص الدينية من الكتاب المقدس، مثل ذكر قصة “عماليق”. هل ترى أن استدعاء هذه النصوص يُعدّ جزءًا من تبرير الحرب في الوقت الحالي؟ وكيف يمكننا فهم “قيم التوراة” في سياق الحروب الحديثة؟
- د. معتز الخطیب: أبدأ بالإشارة إلى أن استحضار النصوص الدينية في سياق الحروب، مثلما فعل رئيس “الحكومة الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو في خطابه الأخير، يعد عنصرًا مهمًا في فهم الديناميكيات الفكرية والسياسية لهذه الحروب. فعندما يذكر نتنياهو قصة”عماليق” ويشير إلى ضرورة “محوهم” كما جاء في الكتاب المقدس، فهو لا يكتفي فقط بالاستحضار التاريخي لأحداث قديمة، بل يربطها بالحرب الحالية لتوفير مبرر ديني وأخلاقي لما يحدث في غزة. فالربط بين “عماليق” والفلسطينيين، كما يُقدم في الخطاب الإسرائيلي اليوم، يُعتبر تشويهاً لمفهوم الأخلاق في الحرب. ففي الأسفار المقدسة، “عماليق” هم رمز للعدو الذي يجب محوه بشكل تام، بما يشمل الرجال والنساء والأطفال. ولكن التفسير الحديث لهذه النصوص يشير إلى نوع من الإسقاط والتبرير لإبادة جماعية، وهذه ليست أخلاقيات الحرب التي ينبغي أن تحكم سلوك الدول والشعوب في العصر الحديث.
- شذرات: هل تعتقد أن “قيم التوراة” التي يتم الترويج لها في الخطاب الإسرائيلي تستند إلى منطق أخلاقي متّسق أم أنها تسوغ أفعالًا لاإنسانية في ظل القانون الدولي؟
- د. معتز الخطیب: من الناحية الفكرية، يمكن اعتبار “قيم التوراة” في سياق الحروب جزءًا من منظومة فكرية إيديولوجية تتجاوز مجرد التفسير الديني للنصوص. بعض الحاخامات والسياسيين الإسرائيليين مثل الحاخام مانيس فريدمان يقدمون هذه القيم باعتبارها “الطريقة اليهودية” في الحرب، حيث تُمثل القوة والتمكين وسحق العدو جزءًا من مشروع ديني وأخلاقي. فالرؤية القائلة بأن التوراة تُوجب “إبادة” أعداء الشعب اليهودي، مثل ما يحدث في الحروب المعاصرة ضد الفلسطينيين، تُعتبر من منظورهم جزءًا من مشروع “الدفاع عن النفس” أو حتى “التحرير الروحي”. لكن من ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى هذه “القيم” من زاوية أخلاقية حديثة، نجد أنها تتناقض تمامًا مع ما يُعرف بالأخلاقيات الإنسانية والقانون الدولي، الذي يُحرم قتل المدنيين وتدمير الممتلكات بشكل عشوائي. بالتالي، فإن هذه “القيم” تُظهر في الحقيقة تضاربًا مع المبادئ المعترف بها دوليًا.
- شذرات: كيف يمكن تفسير الخطاب الإسرائيلي الذي يُصر على أن جيشه هو “أكثر جيش أخلاقي في العالم”، في ظل الجرائم المرتكبة في غزة؟ وكيف يتم تجنب المساءلة الدولية في هذا السياق؟
- د. معتز الخطیب: من الواضح أن الخطاب الإسرائيلي يحاول تقديم نفسه باعتباره مُحافظًا على “القيم الأخلاقية”، ولكن هذه “الأخلاق” تتوقف عند الحدود التي يحددها “النظام الإسرائيلي” نفسه. فالتصريحات مثل التي أطلقها نتنياهو حول أخلاقية “الجيش الإسرائيلي” أو تلك التي صرح بها جلعاد أردان، لا تعكس سوى محاولة لتسويغ ما يحدث على الأرض باستخدام لغة أخلاقية لا تتناسب مع الواقع. “الجيش الإسرائيلي”، كما يزعم المسؤولون الإسرائيليون، يتبع “القيم التوراتية” في الحرب ويعمل على “تجنب إلحاق الأذى بالمدنيين.”، لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك تمامًا. القصف العشوائي للمناطق المدنية، تدمير المستشفيات، وقصف المدارس، وقتل الأطفال، كلها أفعال تتناقض مع أي تعريف معترف به للأخلاقيات الإنسانية. السبب في استمرار هذه السياسات دون مساءلة دولية جادة يعود إلى القوة السياسية والاقتصادية التي تمارسها “إسرائيل” على الساحة الدولية. كما أن الدعم الأمريكي المستمر لها يعزز موقفها في مواجهة أي انتقادات دولية. ومع ذلك، بدأت بعض المنظمات الدولية، مثل اليونيسف، في الإشارة إلى ما يحدث في غزة باعتباره إبادة جماعية، وهو ما يجب أن يُثير القلق في المجتمع الدولي.
- شذرات: لكن، هل من الممكن أن نتصور مخرجًا لهذه الحلقة المفرغة من العنف؟ هل يمكن للمجتمع الدولي أن يتدخل فعلاً لحل النزاع بشكل عادل؟
- د. معتز الخطیب: الحل يكمن أولاً في تغيير التصورات الفكرية السائدة حول الحرب والعدو، والتخلص من الإيديولوجيات التي تُبَسِّط الصراع إلى معركة بين “الخير” و”الشر”. الحل يتطلب الاعتراف بحقوق الفلسطينيين كبشر لهم كرامتهم وتاريخهم وحقهم في تقرير مصيرهم. هذا يشمل نهاية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتمكين الشعب الفلسطيني من بناء دولة ذات سيادة. المجتمع الدولي، بدوره، يجب أن يتحمل مسؤولياته في فرض القوانين الدولية، وخاصة فيما يتعلق بحماية المدنيين في مناطق النزاع. الإجراءات السياسية والضغط الاقتصادي يجب أن تكون جزءًا من الحل، ولكن لا بد من ضغط حقيقي على “إسرائيل” لوقف انتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان. إذا كانت “قيم التوراة” لا تتماشى مع مبادئ العدالة والحقوق الإنسانية، فمن الضروري أن تُستبدل بمنظومة من القيم الإنسانية المشتركة التي تحترم كرامة الإنسان بغض النظر عن دينه أو عرقه.
- شذرات: دكتور معتز، هل يمكنك أن تلخص لنا رؤيتك حول كيفية التأثير على الوعي العالمي من أجل تحقيق سلام دائم في هذه المنطقة؟
- د. معتز الخطیب: أعتقد أن التأثير على الوعي العالمي يتطلب تغييرًا جذريًا في فهمنا للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. علينا أن نركز على تعزيز القيم الإنسانية، مثل العدالة والمساواة وحقوق الإنسان. السلام الحقيقي لا يتحقق إلا عندما یُعترف بحقوق الفلسطينيين، ويُعطى لهم فرصة العيش بسلام في وطنهم. يجب على المجتمع الدولي أن يتوقف عن تقديم الدعم الأحادي الجانب لـ”إسرائيل”، وأن يتبنى موقفًا حياديًا يتماشى مع القوانين الدولية. السلام ليس مجرد غياب للعنف، بل هو بناء لحياة كريمة ومساواة حقيقية لجميع الأطراف المعنية.
- شذرات: في مقال کتبتَها للجزیرة، تطرّقتَ إلى استخدام مصطلح “الدروع البشرية” وكيف أن السياسيين والعسكريين الإسرائيليين والغربيين يستغلونه في سياق الحرب ضد غزة. لكنك تشير أيضًا إلى أن هذه الحجة لا يمكن قبولها لا من الناحية القانونية ولا الأخلاقية. هل يمكن أن تشرح لنا أكثر عن الفرق بين “الدروع البشرية” و”التترس” في هذا السياق؟
- د. معتز الخطیب: نعم، الفكرة الأساسية التي طرحتها هي التمييز بين المصطلحين: “الدروع البشرية” هو مصطلح قانوني وعسكري حديث يشير إلى جريمة حرب. هنا، يتم استخدام المدنيين في الحروب بشكل مباشر أو يتم الاستفادة منهم لحماية أهداف عسكرية. لكن “التترس” مصطلح فقهي قديم، ويشير إلى حالة يحتمي فيها العدو غير المسلم بأشخاص محرّم قتلهم في الحرب مثل المسلمين أو أهل الذمة. في التترس، كان النقاش الفقهي يدور حول حكم القتال إذا كان سيؤدي إلى قتل هؤلاء الأشخاص المحرّمين، وهو موضوع مختلف تمامًا عن الدروع البشرية التي تعني استغلال المدنيين بشكل مباشر.
- شذرات: لكن في حالة الحرب على غزة، هل يمكن القول بأن “إسرائيل” فعلًا استهدفت المدنيين الفلسطينيين استنادًا إلى “الدروع البشرية”؟
- د. معتز الخطیب: في الحقيقة، المعنى القانوني “للاستخدام” و”الاستفادة” من المدنيين في الحرب، ينطبق أكثر على “إسرائيل” من حماس. استخدام المدنيين بشكل مباشر في الحرب لم يثبت أنه حدث من قبل حماس، لكن “إسرائيل” فعلت ذلك بشكل متكرر كما أوضحتُ في المقالات السابقة. أما “الاستفادة” من المدنيين في غزة، فهي مسألة معقدة، لأن غزة هي منطقة مكتظة بالسكان وتعرضت لعدوان من طرف واحد، حيث الحرب تدور بين جيش نظامي محتل وحركة مقاومة لا تتمتع بصفة دولة. وبالتالي، من الصعب تطبيق معايير الحرب التقليدية على غزة.
- شذرات: ما الذي يجعل “الدروع البشرية” قضية شائكة من الناحية الأخلاقية؟
- د. معتز الخطیب: أحد الأبعاد الأخلاقية الجوهرية هو أن “الدروع البشرية” تشكل انتهاكًا لحرمة المدنيين. في الحرب، القانون الدولي يحرص على التمييز بين المدنيين والعسكريين، وبالتالي فاستغلال المدنيين كوسيلة لتحقيق هدف عسكري ينتهك هذا المبدأ. الأخلاقيات تقتضي حماية المدنيين من خلال منعهم من أن يصبحوا جزءًا من الأدوات العسكرية. كما أن في حالة غزة، الدمار الشامل الذي وقع على المدنيين، وخاصة الأطفال والنساء، لا يمكن تبريره بذريعة أن حماس قد استخدمتهم دروعًا بشرية. فالأطفال والنساء لا يمكن تحميلهم مسؤولية الصراع.
- شذرات: كيف تبرر “إسرائيل” ما قامت به في غزة من قتل وتدمير في ضوء هذه المعايير؟
- د. معتز الخطیب: “إسرائيل” تتذرع بحقها في الدفاع عن النفس، لكن هذا التبرير لا يقف على أسس قانونية أو أخلاقية عندما يتعلق الأمر بالحجم الهائل للضحايا، خاصة من المدنيين. الحرب على غزة كانت بمثابة قصف عشوائي لأحياء سكنية، حيث تم تدمير مبانٍ بالكامل وقتل آلاف المدنيين. الحروب لا تُبرر بقتل الأبرياء، ولا يمكن اعتبار هذا “ضررًا جانبيًا”. القوانين الدولية تطالب بحماية المدنيين واحتياطيات الحرب، وهو ما لم تلتزم به “إسرائيل”، فهي لم تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين مثل تنسيق الإجلاء أو توفير الخدمات الطبية.
- شذرات: هل يمكن القول أن هذا يشير إلى استخدام “إسرائيل” للعنف كأداة سياسية ودينية؟
- د. معتز الخطیب: بالضبط، العنف الذي مارسته “إسرائيل” في غزة له دوافع سياسية ودينية. ليس فقط في سياق الدفاع عن الدولة، بل أيضًا في إطار بناء صورة “الدولة اليهودية”. كما أن التصريحات التي أطلقها المسؤولون الإسرائيليون عن الهجمات العسكرية تظهر بوضوح أن الصراع ليس فقط عسكريًا، بل دينيًا وثقافيًا. تبرير العنف باسم الدفاع عن النفس أو الأمن القومي لا يعفيهم من مسؤولياتهم تجاه المدنيين. “إسرائيل” تنتهك قوانين الحرب وتستخدم العنف لتحقيق أهداف سياسية دينية بحتة.
- شذرات: وهذا يعيدنا إلى موضوع العنف وأبعاده. فعلاً، هناك تناقضات كثيرة في طريقة التعاطي مع العنف في الصراعات المختلفة. لماذا لا يُسمى العنف الذي تمارسه “إسرائيل” في غزة “عنفًا إسرائيليًا” أو “عنفًا يهوديًا” كما يحدث مع غيره من أشكال العنف؟
- د. معتز الخطیب: بالضبط، هناك ازدواجية في المعايير. بينما يُنظر إلى العنف الذي يمارسه البعض على أنه إرهاب أو عنف غير مبرر، نجد أن العنف الإسرائيلي لا يتعرض لنفس القدر من الانتقاد أو التساؤل. الحرب على غزة تُظهر عنفًا منظمًا وواسع النطاق، وعلى الرغم من ذلك، لا تجد هذا التصنيف لدى القوى الغربية أو الإعلام الغربي. هذا يعكس مفارقة كبيرة في كيفية تقييم العنف اعتمادًا على الجهة الفاعلة، ما يستدعي إعادة التفكير في مفاهيم العنف والعدالة.
- شذرات:
ما هي الرسالة التي يجب أن نتعلمها من هذه القضية؟
- د. معتز الخطیب: الرسالة الأساسية هي ضرورة التمييز بين المدني والعسكري وحماية المدنيين في جميع الحروب. لا يمكن للقانون الدولي ولا الأخلاقيات أن تقبل بتدمير المدنيين تحت أي ذريعة، سواء كانت “الدروع البشرية” أو غيرها. المسؤولية المشتركة في الحروب تتطلب أن يتم احترام حياة المدنيين، وأن يكون هناك تمييز واضح بين الأهداف العسكرية والمدنية.
- شذرات: نحن نودّ أن نناقش معك أحد المفاهيم التي أثارت جدلاً كبيرًا في الآونة الأخيرة في سياق الحروب المعاصرة، وهو مفهوم “الأضرار الجانبية” أو (Collateral Damage). هل يمكنك أن تشرح لنا أولًا ما يعني هذا المصطلح في السياقات العسكرية، وما هي أهداف استخدامه من قبل السياسيين والعسكريين؟
- د. معتز الخطیب :بكل تأكيد. في البداية، مصطلح “الأضرار الجانبية” يُستخدم للإشارة إلى الإصابات أو الخسائر التي تلحق بالمدنيين أو الممتلكات غير العسكرية نتيجة الهجمات العسكرية. وهو مصطلح ظهر بعد تطوير الأسلحة الموجهة بدقة في السبعينيات من القرن الماضي، ويستخدم عادةً لتخفيف المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن الهجمات التي تسببت في إصابات بين المدنيين. وعادة ما يُستخدم في الحروب لتبرير الخسائر البشرية والمادية غير المتوقعة التي يتسبب فيها الهجوم العسكري، حيث يتم تصويرها على أنها جزء من “طبيعة الحرب”.
- شذرات: هل تعتقد أن هذا المصطلح يساهم في تبرير أو التخفيف من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية للجهات المتورطة في الهجمات؟
- د. معتز الخطیب: بالفعل، يمكن القول إن هذا المصطلح يُستخدم بشكل أساسي للتبرؤ من المسؤولية. كما ذكرت، “الأضرار الجانبية” تهدف إلى التخفيف من المسؤولية عن الهجمات العسكرية التي تؤدي إلى مقتل مدنيين أو تدمير ممتلكات غير عسكرية. وإذا نظرنا إلى السياقات التي يتم فيها استخدام هذا المصطلح، نجد أنه غالبًا ما يُقال إن “الحرب تنطوي على ضحايا”، وهذا يعفي الجيوش من المساءلة القانونية أو الأخلاقية. ما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا هو أن الحرب في غزة، على سبيل المثال، ليست حربًا تقليدية بين جيشين، بل هي حرب بين قوة احتلال وشعب محتل، مما يغير تمامًا طريقة التعامل مع الضحايا.
- شذرات: نتيجة لهذه التبريرات، نرى أن المسؤولين السياسيين والعسكريين غالبًا ما يستخدمون هذه المبررات لتخفيف من وطأة الهجمات التي تستهدف المدنيين، كما في الحرب على غزة. كيف ترى هذه التبريرات، خاصة من جانب الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة التي تدعم “إسرائيل”؟
- د. معتز الخطیب: التبريرات التي تُقدّم في مثل هذه الحالات غالبًا ما تكون عبارة عن تقنيات لفظية للتنصل من المسؤولية. فعلى سبيل المثال، نسمع المسؤولين الأميركيين يصفون “الجيش الإسرائيلي” بأنه “أكثر الجيوش أخلاقية”، بينما في الوقت نفسه يستمر القتل الجماعي للمدنيين. هذا التناقض يظهر بشكل واضح في تصريحاتهم عن أن “حماس تتخذ من المدنيين دروعًا بشرية”، بينما يصرّون على أن “إسرائيل” لا تقصد قتل المدنيين بل تحدث تلك الإصابات “عرضًا”. هذا التفسير يهدف إلى تحميل مسؤولية قتل المدنيين لحماس، وفي الوقت نفسه يحاول إضفاء نوع من الطهارة الأخلاقية على “إسرائيل”، وهو أمر يثير الكثير من التساؤلات.
- شذرات: بحسب رأيك، هل يمكننا اعتبار أن هذه التصريحات تندرج تحت بند “التضليل الإعلامي” أو “التبرير الأخلاقي”، بمعنى أنها تعبير عن السياسة الفعلية التي لا تجرؤ على التعبير عن نفسها بشكل صريح؟
- د. معتز الخطیب: بالضبط. ما نراه اليوم ليس فقط “معلومات مغلوطة” بل هو تلاعب لفظي دقيق للغاية. في الحقيقة، ما يحدث في غزة ليس مجرد “أضرار جانبية”، بل هو جزء من سياسة حرب شاملة تهدف إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية بأي ثمن. وعندما يُقال إن “إسرائيل”، “تعمل على تقليل الخسائر بين المدنيين”، فإن هذا نوع من التبرير لنفس السياسة التي تستهدف المدنيين بشكل واسع، بغض النظر عن الأضرار المترتبة على ذلك.
- شذرات: هل يمكننا القول أن مسألة “النية” تلعب دورًا أساسيًا في تحديد ما إذا كانت هذه الأضرار تُعد جرائم حرب أم لا؟ وكيف يتم تفسير “النية” في القوانين الدولية والفقه الإسلامي؟
- د. معتز الخطیب: نعم، النية تلعب دورًا محوريًا في تحديد ما إذا كان العمل العسكري متعمدًا أم لا. في القانون الدولي الإنساني، هناك ثلاث مبادئ أساسية يجب أن تُراعى: الأول هو ضرورة الهجوم العسكري، الثاني هو التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، والثالث هو التناسب بين الهدف العسكري والأضرار المحتملة. في حالة غزة، نجد أن الأضرار الجانبية كانت هائلة وأثرت بشكل أساسي على المدنيين، في ظل عدم وجود أهداف عسكرية متناسبة. أما في الفقه الإسلامي، نجد أن الفقهاء يعتبرون أن الأسلحة المستخدمة في القتل تقوم مقام النية، فكل آلة تقتل بشكل متكرر يمكن اعتبارها بمثابة نية القاتل، وهذا يطبق بشكل دقيق في حالة الحرب على غزة. الأسلحة المستخدمة في تلك الحرب تضمن القتل غير المتناسب بالنسبة للهدف العسكري المزعوم.
- شذرات: دكتور معتز، هل ترى أن هناك أفقًا لتغيير هذا النهج في معالجة القضايا الإنسانية في الحروب؟ وهل هناك أمل في أن يتحمل السياسيون والعسكريون المسؤولية الأخلاقية والقانونية تجاه المدنيين؟
- د. معتز الخطیب: الأفق غير واضح، ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تحقيق أي تغيير. المسؤولية الأخلاقية والقانونية يجب أن تكون أولوية في التعامل مع الحروب المعاصرة. على المجتمع الدولي الضغط بشكل أكبر لفرض معايير قانونية واضحة تنظم الحروب وتضمن حماية المدنيين. للأسف، ما نراه اليوم هو سياسات تعتمد على التبريرات الدبلوماسية التي لا تخدم سوى استمرار الحرب ومعاناة المدنيين. ولكن مع الضغط المستمر من قبل المجتمع الدولي، والأصوات الرافضة لهذه الممارسات، قد يكون هناك أمل في أن تتغير السياسات العسكرية على المدى الطويل.