مقدمة
تحاول المقاربة السوسيولوجية[1] لموضوع أخلاقيات الحرب في الدين أن تفسر العلاقة بين الخطاب الديني بما هو المعالجة المنهجية للنص الديني وبين البيئة الاجتماعية المحيطة بالخطاب، باعتبار أن تحرير الخطاب الديني وفهم النص ليسا مستقلين عن الحالة الاجتماعية الاقتصادية التي يعيشها منشئو الخطاب، وفي ذلك يساعد علمُ اجتماعِ الدينِ العاملينَ في المجال الاجتماعي والديني في تحديد وتقدير الآفاق والمحددات التي يعمل بها الدين باتجاه الأهداف والتوقعات الاجتماعية؛ ذلك أن النص الديني لا يعمل مستقلا عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يفهم ويدرس عادة وفق علم الاجتماع، وفي الوقت نفسه يحاول السوسيولوجيون فهم وتقدير دور الدين في تحديد اتجاهات واستجابات المجتمعات والأفراد، وتفاعلها وتحركها باتجاه التأثير في الواقع القائم أو المرغوب.
إن المقاربة السوسيولوجية للمسائل والظواهر الدينية ليست محاكمة للدين ولا دفاعاً عنه لكنها معنية بتفسير التفاعل والعلاقة بين الدين من جهة والمجتمعات والظواهر والاتجاهات الاجتماعية والسلوكية من جهة أخرى.
الحرب بما هي تعكس تاريخ الأمم والحضارة الإنسانية
الحرب ظاهرة قديمة قدم البشرية نفسها، وقد نشأت منذ أن بدأ الإنسان ينظم نفسه في مجتمعات. تعود جذور الحروب إلى النزاعات حول الموارد، الأرض، السلطة، الدين، والهوية. وقد بدأ الصراع الجماعي حول الموارد الأساسية (الماء والطعام و
المأوى) لغايات تتعلق بالبقاء، وكانت الحرب تتطور مع تطور الأمم والمجتمعات. الحال أن الحرب منتج حضاري تعكس المستوى العلمي والاقتصادي للأمم.
يقدم الفيلسوف الفرنسي نوما –دني فوستيل دي كولانج[2] (1830 – 1889) في كتابه المدينة العتيقة[3] إضاءات مهمة في تاريخ الدين والأفكار وملاحظة العلاقة بين تشكل الأمم حول مواردها وأفكارها. يذكر كولانج أن الأسرة هي ابتداء التشكل الحضاري في جماعات صغيرة ثم قرى وعشائر ثم مدن ذات سيادة وتنظيم اجتماعي سياسي ثم الإمبراطوريات والممالك التي تضم مدنا وممالك فرعية تحكم نفسها في إطار الإمبراطورية.
بدأت الحرب مع تشكل المدن برغم أن السلام كان الغاية الأساسية لتشكيل المدن، لقد أنشأ السلام المدن، وأنشأت المدن الحرب. ذلك أن الحرب عملية منظمة ومعقدة تحتاج إلى جماعة بشرية كبيرة منظمة وتملك قدرات اقتصادية وتكنولوجية وتنظيما سياسيا يمكن الجماعة أو الأمة بتشكيل قوة محاربة ومدربة ومنظمة. يقول برونيسلا مالينوسكي[4]: إن الحرب بما هي صراع بين جماعتين مستقلتين ومنظمتين تنظيما سياسيا لا تقع بين البدائيين؛ فالحرب كالعلم حدث تاريخي مرتبط بالحضارة. ويقول لويس ممفورد في كتابه “المدينة عبر العصور” كان أشد ما في تاريخ المدينة موجبا للأسف ومازال عارها مقيما بيننا مهما بلغ من شأن الخدمات الجليلة التي نهضت بها المدينة فإنها قامت كذلك خلال الجانب الأكبر من تاريخها بأداء دور وعاء للعنف المنظم ودور ناقل للحروب، لنتأمل في نقش سنحريب الذي يصف التدمير الشامل الذي أنزله بمدينة بابل، وكيف أحرقها بالنار ودمر بيوتها وأسوارها وأساساتها وأبراجها ومعابدها وأغرقها بالماء.
تطورت الفكرة الدينية وكبرت مع نمو الجماعة البشرية، وفي واقع الحال فإنهما (الفكرة الدينية والجماعة البشرية) يكبران في وقت واحد، وفي الانتقال من الأسرة إلى المدينة كأساس للتنظيم الاجتماعي؛ كان يجري اختيار آلهة إحدى الأسر لتكون آلهة المدينة، وتصير كهانة هيكل الآلهة في هذه العائلة.
الدين في حالته الأصلية هو الإيمان بالله والعمل الصالح، “إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا” (فصلت، 30)، لكن في تفاعله مع حياة الناس وأعمالهم وفي التحولات الاقتصادية والاجتماعية للأمم على مدى القرون ينشأ فكر ديني يستجيب لهذه التحولات، وقد كانت الأسرة ثورة اجتماعية وحضارية في تاريخ الإنسانية ومسارها، وصارت بطبيعة الحال حجر الأساس في التنظيم الاجتماعي وفي التزام الأفراد تجاه بعضهم، ثم نشأت القوانين والتشريعات الأسرية التي مازالت في امتداداتها وتفاعلاتها تحمل بصمة النشأة والرواية المؤسسة، وقد يفسر ذلك ما يبدو اليوم تناقضا أو صراعا في القيم والقوانين والأفكار، مثل “تأديب الأولاد والزوجة” إذ أنه عندما كان العالم أسرا وليس مدنا وممالك كما نعرفه اليوم، كانت الأسرة تؤدي في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي ما تؤديه اليوم المدن والدول.
يقول فوستيل دي كولانج: هناك حقيقتان مهمتان في تأمل الشعوب؛ الأولى إن المدينة كانت حلفا من مجموعات تكونت قبلها، والأخرى إن المجتمع لم يتطور إلا متدرجا مع اتساع المدينة، وليس في الاستطاعة البت فيما إذا كان التقدم الديني هو الذي جلب التقدم الاجتماعي، إنما المحقق هو أن الإثنين قد حدثا في وقت واحد وفي اتفاق عجيب. وإذا تأملنا جيش المدينة في العصور الأولى وجدنا أنه كان موزعا على قبائل وندوات وأسر “بحيث يكون جار المحارب في القتال هو ذات الشخص الذي يريق معه السوائل في زمن السلم ويقدم القرابين على نفس المذبح”.
يعتقد فوستيل دي كولانج أن الدين أنشأ الدولة والمواطنة، وكانت تبعية الدين للدولة مرحلة متأخرة في مسار البشرية، وكان فقدان حق المواطنة هو عقاب الرجل الذي لم يساهم في العمل الديني، إذ لا يعود في مقدوره أن يكون عضوا في المدينة. ولذلك لم يعرف الرومان ولا الإغريق نزاعا بين الدولة والمؤسسة الدينية، والسبب كما يقول كولانج هو أن الدولة في روما وإسبارطا وأثينا كانت مرجعيتها الديانة.
كان كاهن المدينة الأكبر هو أيضا الرئيس السياسي، فالمذبح هو الذي يمنحه الوظيفة، حسب تعبير أرسطو، وليس في هذا الخلط بين الكهنوت والسلطان ما يثير العجب، إذ هو موجود في أصل كل المجتمعات؛ إما لأنه في ابتداء تكون الشعب لم يكن يستطيع الحصول على الطاعة سوى الديانة؛ وإما لأن الطبيعة الإنسانية تحس بحاجتها لعدم الخضوع إلا لسلطة الخالق. يقول أرسطو: لملوك إسبارطا ثلاثة اختصاصات: تقديم القرابين، والقضاء، وقيادة الحرب.
كان القانون عند الإغريق وعند الرومان وكذلك عند الهنود في أول الأمر جزءا من الديانة، وكانت مجموعة قوانين المدينة هي مجموعة من الشعائر والفرائض الدينية والأدعية والنصوص الشرعية في آن واحد، وكانت قواعد حق الملكية وحق الإرث متفرقة بين القواعد الخاصة بالقرابين وبالدفن وبعبادة الموتى. ندرك من ذلك احترام القوانين والتمسك بها، وهو ما حافظ عليه القدماء زمنا طويلا. لم يروا في القوانين عملا بشريا، فقد كان لها أصل مقدس، لم يكن من اللغو أن يقول أفلاطون إن طاعة القوانين هي طاعة الآلهة. حيث أن القانون كان جزءا من الديانة فقد كان له نصيبه من صفة السرية التي كانت لجميع ديانة المدن، فكانت صيغ القانون سرا مكتوما كصيغ العبادة، كانت مخبأة عن الأجنبي بل مخبأة عن العامة والحلفاء، ولم يكن ذلك لأن البطارقة حسبوا أنهم يستمدون قوة كبيرة من احتكار تملك القوانين بل لأن القانون بحكم أصله وطبيعته، قد لاح لهم زمنا طويلا سرا لا يمكن أن يتلقنه الإنسان إلا بعد أن يكون قد تلقن أولا العبادة القومية والعبادة المنزلية.
كان المواطن يعرف أن له نصيبا في عبادة المدينة، ومن هذه المساهمة كان يستمد كل حقوقه المدنية والسياسية، فإن تنازل عن العبادة فقد تنازل عن الحقوق، وكانت الولائم العامة أهم احتفال للعبادة القومية، وفي اسبارطا كان من يتخلف عن الحضور يحرم من حسبانه بين المواطنين. كانت كل مدينة تفرض أن يشترك كل أعضائها في أعيادها وشعائرها الدينية.
في الحروب ونتائجها كان للمنتصر أن يستغل انتصاره كما يشاء، فما من قانون إلهي أو بشري يوقفه أو يمنعه من شيء، كان يحدث كثيرا أن يذبح جميع الرجال ويلحق المنتصرون بهم الأطفال والنساء عبيدا وخدما.
وبالقضاء على ديانة المدينة تختفي في نفس الوقت ديانة كل أسرة، وتنطفئ المواقد، ومع العبادة تسقط القوانين والشرع المدني والأسرة والملكية وكل ما يستند إلى الديانة، ويعلن المغلوب الذي أنعم عليه بالحياة “إني أعطي شخصي وبلدتي وأرضي والماء الذي يجري فيها وآلهة تخومي ومعابدي ومنقولاتي وكل الأشياء التي للآلهة للمنتصرين”.
لقد انحسر هذا النظام الاجتماعي الديني، بسبب التطور الطبيعي في العقلية الإنسانية، والذي محى العقائد العتيقة، فانهارت معها البيئة الاجتماعية التي أقامتها هذه العقائد، ووجود طبقة من الناس كانت موضوعة خارج نظام المدينة، وكانت تتألم من ذلك، ومن مصلحتها أن تدمره، فحاربته حربا لا هوادة فيها. وعندما ضعفت العقائد التي تأسس عليها النظام الاجتماعي، وأصبحت مصالح سواد الناس مناوئة لهذا النظام كان من المحتم أن يسقط، وما من مدينة نجت من قانون التغيير.
لكن العقائد والآثار لا تختفي نهائيا، وإنما تتحور وتتحول، وتظل بقاياها وامتداداتها عبر العصور، ويمكن أن نلاحظ اليوم في حياتنا الدينية والتشريعية حضور الأسرة والمدينة، ودورهما في تحديد المواطنة والحقوق والواجبات، وفي التشريعات والتنظيم الاجتماعي والسياسي للأمم، والحال أن اللغة والأسرة والمدينة هي أهم ما أنتجت البشرية لتنظيم حياتها وشؤونها، ومازالت هذه المكونات الثلاثة تحدد على نحو حاسم هوية الإنسان ومواطنته ومكانته.
يفسر كينيث نیل والتز[5] في كتاب الإنسان والدولة والحرب[6] كيف تنشأ التوازنات من الوضع الذي تتواجد فيه الدول كلها؛ وليس نتيجة خبث الناس أو الدول، ففي نزعتها المتأصلة إلى التوازن تندلع الحروب للأسباب نفسها التي تدعو إلى التعاون، فالصراع يكمن في طبيعة النشاط الاجتماعي أكثر مما يمكن في طبيعة الناس أو الدول، فالصراع أحد النتائج الجانبية للتنافس والتعاون لأن الدول في سعيها للاعتماد على نفسها تهتم بالوسائل التي تحميها وتحمي مواردها. هل الحرب مجرد ضغينة جماهيرية وبالتالي يكون تفسير الضغينة هو تفسير للشرور التي يقع الناس فريسة لها في المجتمع؟ يقول تافت[7]: “لقد أظهر التاريخ أنه إذا أعطي الشعب فرصة ليقول كلمته فإنه دون شك سيدلي بصوته ما أمكن لصالح السلام، وقد تبين في كل زمن أن الحكام المستبدين أكثر ميلا للحرب من شعوبهم”
يرى سبينوزا[8] أن الحفاظ على الذات هو الغاية من وراء كل فعل، وعلى هذا الأساس يبنى سبينوزا نموذجا للسلوك العقلاني: الافعال العقلانية هي التي تفضي تلقائيا إلى التناغم في جهود تعاونية من أجل إدامة الحياة، ويفسر الشرور الاجتماعية والسياسية على أساس الصراع بين العقل والعاطفة. لكن كما يقول والتز لا يمكن للطبيعة البشرية أن تفسر الحرب والسلام؛ برغم أنها تلعب دورا في الحرب والسلام، ويرى أن الاهتمام الزائد بالسبب الجوهري للصراع يفضي إلى الابتعاد عن التحليل الواقعي للسياسة العالمية. ويوجز والتز مضمون التصور الأولي للسؤال كيف نفكر في الحرب والسلام في أن الشر المتأصل في البشر أو سلوكهم غير اللائق يفضي إلى الحرب، وإن الصلاح الفردي لو أمكن تعميمه وجعله شيئا عالميا فسوف يوصلنا إلى السلام، وفي نظر الكثيرين فإنه من الممكن إصلاح الأفراد إصلاحا كافيا للوصول إلى سلام دائم في العالم.
وهنا يسأل والتز: هل يعني أن البشر صالحون أنه ليس هناك مشاكل اجتماعية أو سياسية؟ ولكن ما معنى “صالح”؟ المسألة أن جميع الفلاسفة الذين فكروا في المسألة لاحظوا وجود الصراع، وسألوا عن السبب، وألقوا اللوم على واحدة أو عدد من السمات السلوكية. لقد شغلت العلوم السلوكية بالظاهرة، ويستعرض والتز كثيرا من هذه النظريات والمحاولات البحثية والفلسفية لفهم الحرب والسلام. هذه المعرفة العلمية لعلاقاتنا الاجتماعية تساعدنا على ايجاد وسائل ثقافية تحقق للبشرية في معيشتها مستوى أفضل.
في محاولتهم الطويلة لإحلال العقل محل القوة العسكرية قدم الليبراليون فكرا متراكما عن حدود استخدام القوة المادية المنظمة التي من شأنها ان تنشئ العالم المسالم الذي يرغبون فيه، وهنا فإن التنظيم الاقتصادي هو المفتاح وليس التنظيم السياسي، وعلى اي حال فإنه برأي والتز لا يمكن تعميم نمط معين من أنماط الدولة والمجتمع لبلوغ السلام العالمي، فالعلاقات الدولية تصنعها تصرفات الناس الذين يمثلون الدول، وهؤلاء تصنعهم مجتمعاتهم، ولكن البيئة السياسية الدولية لها تأثير كبير على طرائق سلوك الدول.
وفي ملاحظة التفكير الانساني في مشكلات السياسة يجد والتز فكرتين متناقضتين حول العلاقة بين بنية الدول وأنواع الحروب التي تشنها؛ البنية السياسية للدولة تتأثر إلى حد بعيد بتنظيمها العسكري، وهو ما تفرضه عوامل خارجة عن السياسية كالموقع الجغرافي، وفي المقابل فإن البنية السياسية الداخلية من شأنها أن تفرض تنظيم واستخدام القوة العسكرية.
وبوجود كثير من الدول ذات السيادة -يلاحظ والتز- وبغياب نظام قانوني واجب النفاذ بين تلك الدول وبقيام كل دولة بالفصل في مظالمها وطموحاتها وفق إملاءات منطقها الخاص ومشيئتها فإن الصراع الذي يفضي أحيانا إلى الحرب واقع لا محالة.
وهنا يعرض أمثلة من الاقتصاد والسياسة والتاريخ، وفي ذلك فإن نورمان آنجل[9] طرح مقولة أن الحرب غير مربحة، كانت دائما –يقول والتز- أطروحة صحيحة، وقد كان آنجل ذا ميول عقلانية وفردية من طراز القرن التاسع عشر وكان اهتمامه بالأرباح والخسائر النسبية لهذا الشعب أو ذاك أقل من اهتمامه بالحقيقة المفروغ منها ومفادها أن الحرب في أحسن حالاتها تبعد الإنسان عن العمل والذي ينتج ضرورات الحياة وكمالياتها، وفي أسوأ حالاتها تدمر ما كانوا قد انتجوه، وقد تحقق الحرب فعلا إعادة توزيع للمصادر، ولكن العمل هو الذي يوجد الثروة وليس الحرب، ومع ذلك تقع الحروب.
لقد أصبحت مخاطر الحروب والصراعات أكبر وأكثر تدميرا، وصارت تأخذ منحى داخليا أكثر مما هي حروب بين الدول، ويتبعها مشكلات اقتصادية ودولية كبيرة مثل قضايا اللاجئين.
يلاحظ روبرت هندي[10] وجوزيف رتبلات[11] في كتابهما أوقفوا الحرب[12] أن الحروب تتنوع في أسبابها، ولا يوجد اتفاق على تعريف مفهوم الحرب إلا أنها عادة ما تسفر عن ضحايا كثيرة و إصابات وخسائر غير عسكرية بنسب عالية جداً ومع إقرارهما بتنوع وتعقد أسباب الحروب فإن العامل الأساسي لقيام الحروب هو توافر الأسلحة الي ما إن يتم حيازتها حتى يجري استخدامها.
إن معظم أسباب الحرب سياسية تقريباً، فكل دولة تعنى بمصالحها الخاصة، ويؤدي تضارب المصالح إلى العنف، كما أن لأداء القادة وشخصياتهم دورا حاسما في الحرب، ومع ذلك فإن احتمال خوض الدول الديمقراطية الحرب ضد بعضها البعض، أقل من احتمال خوض الدول الاستبدادية لها، لكن إمكانيات الخطر تبقى موجودة رغم ذلك.
وقد أسس معهد ستوكهولم[13] لأبحاث السلام الدولي عام 1964 في ذكرى مرور (150) سنة من السلام المستمر في البلاد السويدية، واستطاعت الدول الأوروبية بعد قرون من الحروب أن تجعل الحرب العالمية الثانية نهاية للحروب بينها، وقد مر على انتهاء الحرب أكثر من ستين سنة، فهل يمكن للعالم أن يُحلّ السلام بدلاً من الحرب في تسوية نزاعاته وعلاقاته كما فعلت أوروبا؟ ثمة إجابة بالطبع وهي أن الحروب التي تدور خارج عالم الغرب تُشعل معظمها الدول الغربية نفسها التي ترفض أن تكون الحرب وسيلة لتسوية الصراعات والخلافات فيما بينها، ولكن يبقى السؤال قائماً وملحاً.
تكاد تكون الحروب بين الدول توقفت، ولكن العالم (الثالث بالطبع) يشهد موجة غير مسبوقة من الصراعات والحروب الأهلية الداخلية، وقد أحصى معهد ستوكهولم عشرات الصراعات التي وقعت في السنوات القليلة الأخيرة في آسيا وإفريقية.
وقد تشعر مجموعات في دولة ما بالاستياء وتعتبر نفسها مغبونة من السلطة، وتلجأ إلى وسائل عنيفة للحصول على ما تعتبره حقوقاً مشروعة لها، وللدول صلاحية مطلقة في التحكم في الشؤون الداخلية ضمن حدودها الخاصة، ولا يسمح بتدخل الأمم المتحدة أو هيئات خارجية أخرى إلا عندما يكون السلام أو الأمن الدوليين مهددين.
وقد تلجأ المجموعات التي تفتقر للموارد وتعتبر نفسها محرومة إلى الإرهاب، إذ العنف يولد العنف، ومن هنا يجب التعرف على حافز أعمال الإرهابيين وتصحيح الظلم الذي يشعر به المظلومون حول العالم.
كما أن الاختلافات الثقافية بين البلدان وداخلها يمكن أن تشكل أسسا للحرب، وكثيرا ما ترافق النزاعات اختلافات عرقية ودينية، فالتمييز بين المجموعات داخل الدولة يؤدي إلى مشاعر الخوف والاعتداء، لكن النزاع غالباً يقوم على أسباب اقتصادية، وتستخدم العرقية والثقافة كأساس للتعبئة السياسية.
وتعتبر الصراعات الدينية مظهراً من مظاهر العرقية، لكنها تكون أحيانا وقوداً يغذي مؤسسة الحرب، بالإضافة إلى القضايا الإيديولوجية الأخرى، ونزعة الانتقام الطبيعية نتيجة الأضرار الحاصلة.
وهناك احتمال ضعيف أن يؤدي التنافس بين الدول على الأرض إلى حرب كما في الماضي، لكن أسباب النزاع السياسية والاقتصادية “ندرة الموارد الطبيعية” ما زالت مهمة، واحتمال الإفراط في استخدام الموارد والتدهور البيئي سببان في حدوث النزاع، وبخاصة الخلافات على الموارد المائية.
وتلعب العولمة -التي تجعل الأحداث الحاصلة في أجزاء مختلفة من العالم مترابطة تدريجياً مع بعضها البعض أكثر فأكثر- دورا في تأجيج الحروب، حيث إنها تعمق الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة، وبين الفقير والغني داخل الدولة، وحيث يرتبط تفاوت الثروات بالاستياء والنزاع.
ويعد الفقر وتفاوت الثروة من العوامل المؤدية إلى الحرب، ويمكن أن يجعل التدهور الاقتصادي العنف أكثر احتمالاً، عندما تصبح الموارد أكثر ندرة داخل المجتمع.
يجب ألاّ نقلل من جهود حفظ السلام – كما يؤكد التقرير السنوي للمعهد السويدي للسلام- التي تجري في دول كثيرة حول العالم، وقد اتجهت صراعات عدة إلى الانتهاء مثل تيمور الشرقية، والبلقان وأنغولا، وهناك عمليات إدارة للسلام في حوالي (50) بلداً، وقد ظهرت أيضاً المحكمة الدولية الجنائية إلى الوجود في عام 2002 بعد أن صدّقت عليها ستون دولة، وتُعدّ الولايات المتحدة الأمريكية أقوى خصوم هذه المحكمة، واتخذت خطوات مختلفة لإفشال فعالية المحكمة وحماية مواطنيها من سلطة المحكمة.
الدين والحرب
تتناول معظم الأديان أخلاقيات الحرب من خلال النصوص المقدسة، والعقائد، والتعليمات الأخلاقية. وتحدث لاهوتيون مثل القديس أوغسطين وتوما الأكويني، عن الحرب العادلة والشروط المسموح بها أخلاقيًا لنشوب الحرب.
ونجد أيضا في النصوص الإسلامية تأكيدا صارما على منع الاعتداء “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” (البقرة: 190) وحماية المستضعفين. وهناك الحديث المشهور والمتداول على نطاق واسع وقد رواه أحمد وأبو داود “لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وأصلحوا وأحسنوا، فإن الله يحب المحسنين.” وإكرام الأسير “ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا” واحترام العقود والمعاهدات “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا” (الإسراء، 34) و “إِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ” (الأنفال، 58)
وفي سفر التثنية (10: 20) “حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح.” ونجد فيه أيضا قواعد أخلاقية أخرى تدعو إلى الرأفة مع الناس والأسرى والنساء والضعفاء وفي مزامير داود “اطلب السلام واسعَ وراءه” (34:14).
وفي الإنجيل “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون.” (متى 5:9). “رد سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون.” (متى 26:52).
وتتشابه الهندوسية والبوذية مع اليهودية والمسيحية والإسلام ولعلها تزيد عليها في الدعوة إلى العدل والسلام.
لكن أيضا يبدو واضحا وبديهيا أن الأمم جميعها خاضت حروبا ودخل المنتصرون في أعمال احتلال واستعباد وقتل وإذلال، وتعرض المهزومون للعبودية والذل وفقدان الكرامة والموارد وأسباب الحياة والتهجير والقتل والتشريد. ومن المفارقات التاريخية أن الأمم الأكثر تحضرا كانت أشد قسوة وفظاعة في الحروب وفي المقابل فإن الأمم الأقل امتلاكا للقوة والتكنولوجيا والموارد كانت أكثر رأفة ونفورا من الحرب. ولم يسلم من تمجيد الحروب فلاسفة وعلماء وقادة ومصلحون.
منظور سوسيولوجي للعلاقة بين الدين والحرب
في المنظور السوسيولوجي تتفاعل المجتمعات مع الأفكار الدينية لإنشاء القيم التي تحرك الأمم وتنظم سلوكها ومواقفها، ويشمل ذلك الحرب، لكن الأمم والسلطات تحتاج إلى إضفاء شرعية دينية على الحرب، لبناء التماسك الاجتماعي وراء القرار السياسي بالحرب، وتفيد القيم الدينية أيضا في تشكيل الهوية الجماعية في مواجهة ما تعتبره الأمم تهديدا خارجيا أو خروجا داخليا على القانون وسيادة الدولة. وقد تضفي الأمم طابعا دينيا وقداسيا على الحروب، مثل الصلوات والعهود والطقوس والدعاء لأجل المحاربين وجلب الانتصار. وفي المقابل فإن الدين يمكن أن يعزز السلام ويصرف عن الحروب والعداء بين الأمم والجماعات، “وإن جنحوا لِلسّلم فاجنح لها” (الأنفال: 61) .
إن الأمم تنشئ توقعاتها حسب المرحلة أو اللحظة الحضارية التي تعيشها، ثم تعيد إنتاج فهم النصوص الدينية والخطاب الديني وراء هذه التوقعات، فقد يتحالف الخطاب الديني مع السلطات الحكومية لتبرير الحروب، وتغلف المصالح الاقتصادية، وتطلعات السيطرة على الموارد أو الهيمنة بخطاب ديني.
تفسر نظرية الاختيار العقلاني تسلوك الأفراد والجماعات من خلال افتراض أنهم يتخذون قرارات عقلانية لتحقيق أهدافهم، بناءً على الموازنة بين التكاليف والمكاسب. وفي ذلك يمكن التقدير أن تسوق المجتمعات تأويل النصوص والميراث الديني باتجاه مصالحها إذا كانت الحرب تحقق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تفوق تكاليفها. ويمكن الاستدلال بالحروب التي خاضتها الإمبراطوريات والجماعات على مدار التاريخ مزودة بحشد ديني كثيف، حتى تكاد تبدو حروبا دينية.
وربما يكون الاستخدام الديني أكثر حضورا وأهمية لأجل بناء الشرعية السياسية والتأييد الجماهيري والاجتماعي وتبرير الحشد والإنفاق والاستثناءات لأجل الحرب.
ربما تكون نظرية الاختيار العقلاني تتجاهل البعد الروحي للدين وتأثير ذلك على المؤمنين، وقد يجادل البعض أنها عمليات واتجاهات مستقلة عن الاختيار المصلحي أو العقلاني. وهناك أمثلة كثيرة صحيحة تؤكد الدافع الروحي المستقل عن المصالح في الحروب والمواقف والاتجاهات. لكن ذلك لا يقلل من أهمية السياق العام للأمم والذي تغلب عليه عمليات اختيار عقلانية، حتى ما يبدو منه روحيا مستقلا تستغله نخب وطبقات تحركها دوافع عقلانية.
تركز نظرية التفاعل الرمزي على بناء المعاني والرموز من خلال التفاعلات الاجتماعية. ويمكن وفقًا لهذه النظرية، فهم الظواهر الاجتماعية مثل الحرب والدين باعتبارها منتجات للعلاقات الإنسانية التي تُشكّل وتُعاد تشكيلها باستمرار من خلال الرموز والمعاني التي يعطيها الأفراد لأفعالهم.
وبطبيعة الحال فإن الدين مليء بالرموز والمقدسات التي تمنح أفعال الأفراد معانی خاصة وإضافية مختلفة عنها وهي مستقلة عن هذه الرموز. فيحارب المؤمنون ويسالمون مستحضرين الصراع بين الخير والشرّ أو “نحن” و “هم” ويتطوعون بالتضحية وتقديم ما يملكون لأجل هذه الرموز والمعاني.
وقد تكون أمثلة الحرب والصراع في الترميز الديني(عند بعض الأدیان) أكثر من أمثلة السلام والرحمة والتشارك، لكن الحالتين قادرتان على الحضور الرمزي في الدين. يقول المحاربون “واقتلوهم حيث ثقفتموهم” (البقرة: 191) ويقول المسلمون “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” (البقرة: 190) لكن الأمم تدرك بدرجة عالية من الوضوح والنزاهة السياقات الملائمة للنصين.
وبخلاف نظرية الاختيار العقلاني فإن نظرية التفاعل الرمزي تعلي من شأن الرموز والطقوس في العمليات والتفاعلات الاجتماعية، وتفسر سلوك الأمم في الحرب والسلم بناء على معان ورموز مستقلة تهبط على الأمم خارج سياقها العام والمرحلة الاجتماعية الاقتصادية التي تعيشها.
لا يزعم علم الاجتماع ولا يقدر أيضا أن يحصر فهم الدين باعتباره ظاهرة اجتماعية، لكن الخطاب الديني أيضا لا ينكر البعد الاجتماعي والثقافي والظروف المحيطة في فهم الدين وتطبيقه. فالدين مورد أخلاقي مهم، وإن كانت الاخلاق تتشكل مستقلة عن الدين بناءا علی بعض النظریات، وتتشارك فيها الأمم جميعها، بل إنها الجامع الأكبر بين الأديان جميعها.
إن الأخلاق بمنظور سوسيولوجي ليست “حجرا هبط من السماء” أو مجرد تعليمات نصية، بل هي نتاج تفاعلات اجتماعية، سياقات تاريخية، وصراعات رمزية تُعيد تشكيل المعايير الدينية عبر الزمن، وإن كان ذلك لا ينفي أن الأديان تقدم أطرًا أخلاقية وقواعد تنظم الحروب استنادًا إلى تعاليمها الأساسية. هذه الأطر تُستخدم أحیانًا لتبرير النزاعات أو لتقييدها ضمن حدود أخلاقية.
في النظرية الوظيفية يعتبر الدين أداة للحفاظ على التماسك الاجتماعي والنظام، وتعزيز الهوية الجماعية وتبرير الحروب التي يُعتقد أنها تدافع عن القيم المشتركة. ويمكن أيضا بالدين تبرير السلم والقواعد والقوانين والتقاليد التي تضبط الحرب بقواعد أخلاقية تحصر أو تقلل أثرها وضررها.
شغل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر[14] (1864 – 1920) بتأثير الدين على السلوك الاجتماعي، بما في ذلك الحرب وأخلاقياتها. وكان يرى الدين كقوة محركة للتغيرات الاجتماعية، مع التأكيد على دوره في تشكيل الأنظمة الأخلاقية والقيم التي تحكم السلوك البشري، بما في ذلك الحروب.
واشتهرت مقولة ماركس[15] المتداولة على نطاق واسع “الدين أفيون الشعوب” وهي عبارة منتزعة من سياقها على نحو مختلف لما يريده ماركس بالفعل ففي تفسيره للتاريخ على أساس مادي اقتصادي؛ يعتبر ماركس الدين جزءًا من البنية الفوقية للمجتمع، أي أنه يعكس ويخدم المصالح الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الحاكمة. وفقًا لهذا التحليل، فإن أخلاق الحرب في الدين ليست سوى انعكاس للصراعات الطبقية والاقتصادية التي يتم إضفاء الشرعية عليها من خلال الرموز والتعاليم الدينية. الدين، من المنظور الماركسي، يُستخدم كأداة لتبرير الحروب التي تخدم المصالح المادية للطبقات السائدة. وإن كان الدين أيضا بمنظور ماركس ملاذا للطبقات لحمايتها وقدرتها على التأثير والنضال.
ويعتبر رائد علم الاجتماع المعاصر دیفید إميل دوركايم[16] (1858 – 1917) أن الدين جزء من مؤسسات المجتمع ومكوناته، ينشئ التماسك الاجتماعي والقيم الأخلاقية، ويوحد الأمم وراء رموز ومعتقدات مشتركة، وينشئ إطارا أخلاقيا لتنظيم العمليات والسياسات الاجتماعية والسياسية ومنها الحروب.
أخلاق الحرب في الدين ليست مجرد قواعد نصية، بل هي ظاهرة اجتماعية تعكس حاجة الجماعات للحفاظ على هويتها وتماسكها، سواء أثناء الحرب أو بعدها.
القانون الدولي لتنظيم قوانين وتقاليد الحروب
لقد طورت الأمم منذ الحرب العالمية الثانية قواعد وقوانين دولية للحرب والصراع، لضمان حماية المدنيين والأطفال وحقوق الأسرى، كما أنشأت قواعد للتدخل في الصراعات المسلحة لأهداف إنسانية متجاوزة تقاليد سيادة الدول، كما حدث في كوسوفو وتيمور وسيراليون. وهناك حالات ملتبسة كما في أفغانستان والعراق، وهناك أزمات وحالات غاب العالم عنها ولم يتدخل بها، كما في حالات الشيشان والجزائر والكونغو وكولومبيا وليبيريا، وهناك أيضا حالات أخرى مختلفة عما سبق (ربما) مثل فلسطين والسودان ونيبال ولبنان وسوريا وليبيا.
وهي حالات تطرح سؤالا جوهريا عن منهج التعامل الدولي مع الأزمات والقضايا الإنسانية وتقييمها وانتقائها، وتقترح هنا منظمة أطباء بلا حدود اعتبار معدل الوفيات هو العامل الحاسم في اعتبار الحالة أولوية، وثمة سؤال يثير التفكير مجددا في معنى منهج العمل الإنساني.
إن الإنسان باعتباره كذلك مهما كان موقفه السياسي والفكري مُدان يحق له الحصول على العدالة والحياة وضروراتها، وأن يجنب الموت، ومن ثم فإن توجيه العون الإنساني وفقا للموقف السياسي أو الفكري أو الإثني يشكل خطورة على العمل الإنساني.
فالهدف الأساسي للعمل هو تخفيض أعداد الوفيات والحد من معاناة الناس الناجمة عن إحلال النظام العام والحفاظ عليه، ويأتي في هذا السياق على سبيل المثال قانون حماية أرواح غير المقاتلين من المدنيين والجنود الجرحى والأسرى، ومنع التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان التي تمارس في السجون والمعتقلات.
وليست الحروب هي الميدان الوحيد الذي يلقى فيه الناس حتفهم، فيموت كل عام عدة ملايين بسبب مرض الإيدز، وهو رقم يقرب من عشرة أضعاف ضحايا الحروب، ولذلك فإن أسئلة بديهية تطرح نفسها هنا، مثل ما الفرق بين قصف السكان المدنيين وبين منع حصولهم على الدواء؟
ولأن العمل الإنساني يرفض المنطق القائم على تجزئة الجنس البشري إلى من يجوز لهم ومن يتحتم عليهم الموت، فإنه سيعد بالضرورة في نظر السلطة عملا هدّاما مادام أنصار النظام القائم قلما يتعاطفون مع أولئك الذين يقرر النظام تصفيتهم أو يجيزها، ولذلك فإن الشرط الأول لنجاح العمل الإنساني هو رفض التعاون في عملية الفرز المهلكة هذه، وهو شرط جوهري غير قابل للتفاوض.
وقد بدأ المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب الباردة عمليات تدخل لأهداف إنسانية، استدعت في بعض الأحيان استخدام القوة العسكرية، ولكنه نوع من التدخلات الإنسانية التي تعتبر استثناء ولا تمثل القاعدة.
وإذا كان ينظر إلى الحق في التدخل على أنه جبهة أخلاقية لحماية مصالح القوى العظمى، فقد جرى توسيع نطاقه باسم الحرب على الإرهاب، بعد أن كان يراد له أساسا وضع نهاية عاجلة لأعمال العنف الشاملة التي يكتوي المدنيون بنارها، وصار مفهوم التدخل الدولي يأخذ صيغة الحرب الوقائية.
وتعرض الحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول مثالا مثيرا للاهتمام حول الطريقة التي تدار بها “الحرب العادلة” والعواقب التي يخلفها هذا المفهوم الخادع، فالحرب على الإرهاب كان الشعار الذي أريد به حشد صفوف أنصار الهجوم الأميركي على أفغانستان، ولكن سادت الغلبة للمواقف الانفعالية والعاطفية على المنطق والعقل.
فجرى التغاضي على التجاوزات والتعتيم على الانتقادات، ولكن سوء إدارة هذا “العمل الإنساني” كان شديدا إلى الحد الذي لا يمكن التغاضي عنه، فقد منع اللاجئون من الفرار من ويلات الحرب، وقطعت الطريق أمام المعونات الغذائية، وزجّ بعناصر عسكرية في هيئة عمال إغاثة، وشنت هجمات عسكرية على مراكز المنظمات الإنسانية، واستخدمت القنابل العنقودية، ونفذت مجازر بحق أسرى الحرب.
لقد تطورت الآلة العسكرية والحربية على نحو جعلت الحروب تنطوي على كوارث وتداعيات عميقة الأثر وطويلة المدى، كاللاجئين، ونزف الموارد، وتلوث البيئة وتدميرها، بالإضافة إلى القتلى والمصابين بأعداد هائلة وبخاصة بين المدنيين والنساء والأطفال.
هل كانت الديمقراطية الغربية إطارا للعمل الدولي يصلح بديلا للحروب؟ ولكن لماذا تكون الديمقراطيات الغربية نفسها هي مصدر السلاح والدمار والاحتلال والنزاعات والأزمات الكبرى في العالم؟ ولماذا يرغب الناس في خوض الحرب؟ وماذا يمكن فعله لمنع الحرب؟
قد تلجأ المجموعات التي تعتبر نفسها محرومة إلى القتال، فالعنف يولد العنف، وقد تشعر مجموعات في دولة ما بالاستياء وتعتبر نفسها مغبونة من السلطة، وتلجأ إلى وسائل عنيفة للحصول على ما تعتبره حقوقاً مشروعة لها، وللدول صلاحية مطلقة في التحكم في الشؤون الداخلية ضمن حدودها الخاصة.
أسباب النزاع السياسية والاقتصادية ما زالت مهمة، واحتمال الإفراط في استخدام الموارد والتدهور البيئي سببان في حدوث النزاع، وبخاصة الخلافات على الموارد المائية.
وتلعب العولمة -التي تجعل الأحداث الحاصلة في أجزاء مختلفة من العالم مترابطة تدريجياً مع بعضها البعض أكثر فأكثر- دورا في تأجيج الحروب، حيث إنها تعمق الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة، وبين الفقير والغني داخل الدولة، وحيث يرتبط تفاوت الثروات بالاستياء والنزاع.
ويعد الفقر وتفاوت الثروة من العوامل المؤدية إلى الحرب، ويمكن أن يجعل التدهور الاقتصادي العنف أكثر احتمالاً، عندما تصبح الموارد أكثر ندرة داخل المجتمع.
لدى جميع البشر النزعة الاجتماعية والعدوانية في نفس الوقت، ولكن الحرب هي التي تسبب النزعة العدوانية، ويرغب الناس في الذهاب إلى الحرب لأنهم يعتبرون أنه من واجبهم القيام بذلك، نظراً للدور الذي يشغلونه في مؤسسة الحرب، كما تدعم الحياة اليومية والسلوك اليومي مؤسسة الحرب، من خلال عوامل ثقافية وتربوية، وبواسطة المجمّع العسكري الصناعي والعلمي.
ومع أن العدوانية لا تساهم عادة في حدوث الحرب إلا أنها تساهم في زيادة فعالية الدعاية المستخدمة لانتزاع التأييد العام للحرب.
وفي زمن أصبحت فيه التطورات العلمية قادرة على أن تقود إلى تطوير الأسلحة، يصبح من واجب العلماء إدراك مسؤولياتهم الاجتماعية، بأن يتخذوا موقفا أخلاقيا لأنهم يعرفون مقدار الخطورة والضرر الذي تسببه الحرب للمجتمع.
ربما يكون إنهاء الحروب واستباقها بإيجاد طرائق لإزالة أسباب الحرب لينشأ عالم تكون فيه خلافات المصالح قضيت بالتفاوض في مرحلة مبكرة دون عنف, ويمكن أن تلعب التربية دوراً رئيساً وتحل ثقافة السلام مكان ثقافة العنف، ويتطلب منع الحرب التحرك على المستويين الشعبي والسياسي معاً.
وتستطيع الديمقراطية أن تعمل كقوة فعّالة في تقليص احتمال حدوث الحرب، وإن كان ذلك ليس دائما، كما أن تقاسم ثقافة وديانة مشتركتين ليس عاملاً فعالاً لمنع الحرب، لكن يجب علينا فهم كيف يمكن لممارسات ثقافية وأديان مختلفة أن تلبي حاجات إنسانية مشتركة.
ويمكن للعولمة أن تعمل على تعميق التفاهم بين الدول، كما يعمل مبدأ الردع في العصر النووي على زيادة إمكانية حدوث نزاع بين القوى النووية، وفعالية العقوبات مشكوك فيها، فقد يقوم القانون الدولي بدور الكابح لكن ضعف الأمم المتحدة الحالي لا يمكنها من فرض الإذعان بالقوة. وتشكل مراقبة الأسلحة هدفاً أساسيا، وكذلك الاتفاقيات الدولية لحظر أسلحة الدمار الشامل، ووسائل التثبت من الالتزام بها أيضا.
قد يساهم تحسين مستوى التعليم إسهاما عظيما في تخفيف استخدام العنف داخليا على مستوى الدولة أو فيما بين الدول، فالتوعية الأسرية والمجتمعية تخفف من الفقر الذي يعد أحد أهم أسباب العنف، ويساعد على فهم المجتمعات الأخرى وثقافاتها وتقبلها.
والطريقة المثالية هي أن يستخدم الآباء تأثيرهم على الأطفال في تنمية العادات والثقافة المشجعة على السلام والتنمية والإصلاح ونبذ العنف والكراهية والعدوانية، وقد تكون ثمة مشكلات لدى الكبار أنفسهم تتعلق بتنشئتهم وبظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، فالشعور بالحرمان والفرق الكبير بين الأغنياء والفقراء يؤدي إلى الكراهية، ويجعل الأفراد يربون أبناءهم على المنافسة الأنانية، وحديثو الغنى يربون أطفالهم على مضاهاة حسهم التنافسي الخاص. وهناك منظمات يمكن أن يكون لها دور فعال في منع النزاع والتأثير في السياسات الحكومية، وتحريك الرأي العام ضد الحرب، وضد تجارة الأسلحة.
وقد يكون إنشاء منتدى عام يتخطى الحدود القومية تعرض وتناقش فيه الشكاوى علناً، وتتم تسوية الخلافات ويكون قادراً على التدخل، وقد أنشئت الأمم المتحدة لهذه الغاية، ونجحت في بعض المجالات، وأخفقت في البعض الآخر بسبب بنيتها الداخلية، المتضمنة حق النقض من قبل بعض البلدان للاعتراض على قرارات الأغلبية، ونقص الموارد، وبسبب عجز الميزانية، ومازالت بعيدة عن تحقيق أهدافها في الوقت الحاضر.
ويمكن للمنظمات الإقليمية إكمال عمل منظمة الأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية الشعبية، كما أن التنظيمات الدينية يمكن أن تساهم في تأمين السلام وإعطاء الإنسانية حق قدرها كوحدة تتجاوز الحدود الوطنية، وتكون لها مساهمات غير مباشرة في إلغاء الحرب مثل منظمة غرين بيس[17] لحماية البيئة وكذلك حركة بواكواش (Pugwash) وهي مبادرة فريق من العلماء لمنع الحرب النووية وإيجاد طرق لمنع الاستخدامات الضارة للعلوم التكنولوجية، تأسست عام 1957[18]. ويمكن للمواطنين العاديين فعل الكثير لمنع نشوب العنف بممارسة الضغوطات على الحكومات لتأمين ظروف مدنية لا تفضي إلى النزاع، أو بتقديم اقتراحات وحلول من قبلهم.
هل يمكن أن يؤدي الدين دورا أخلاقيا في الصراعات والحروب المعاصرة؟
يفترض أن يكون السؤال ما الخطاب الديني المعاصر الملائم لمرحلة تشكلت فيها رؤى وقوانين وأخلاق جديدة؟ إنها مرحلة تفادي الحروب، أو محاولة تجنبها، وليس التقاليد والأخلاق التي تعتبرها أمرا واقعا أو مشروعا أو لا مفر منه.
بالتأكيد يمكن ذلك، لكنه أمر لا يحدث تلقائيا، فالخطاب الديني ننتجه نحن المؤمنون أتباع الدين، ولا يهبط علينا مستقلا عنا. المسألة ببساطة وهي خلاصة هذا المقال إننا بحاجة إلى عمليات صياغة جديدة للخطاب الديني (بما هو المعالجة المنهجية للنص) باتجاه يجعل المؤمنين جزءا من عالم يحاول أن يتجنب الحرب، ويسعى في تكريس قيم وأخلاق قائمة على التعايش، أو قدرة الأمم والمجتمعات على العيش معا مختلفين متنوعين، ليس فقط يتجنبون الصراع قانونيا أو يمتنعون عن الاعتداء على بعضهم بعضا، لكنهم أيضا قادرون على التعاون والتضامن وبناء فهم مشترك يتقبل الآخر ويتفهمه، بل ويتعلم منه أيضا، أن نكون جزءا من العالم يتقبلنا ونتقبله.
قائمة المصادر والمراجع
آرمسترونغ، كارين. القدس مدينة واحدة وثلاثة أديان. ترجمة محمد عناني. القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، 1998
تايلو، كاثلين. القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري، ترجمة فردوس عبد الحميد البهنساوي. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2014 ترجمة فاطمة نصر ومحمد عناني. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2015
التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي: التقرير السنوي، 2023. استوكوهولم: معهد استوكوهولم لأبحاث السلام الدولي، ومركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
غرايبة، إبراهيم. المدينة أنشأها السلام. المدينة أنشأت الحرب، مجلة الفيصل، نوفمبر 2023
كولانج، فوسيتل دي. المدينة العتيقة: دراسة لعبادة الإغريق والرومان وشرعهم وأنظمتهم. ترجمة عباس بيومي. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2021
فيسك، روبرت. الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة. ترجمة عاطف المولى وآخرون. بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2007
كلارك، بيتر (محرر) المرجع في سوسيولوجيا الدين. ترجمة محمد وهبة. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020
ممفورد لويس. المدينة عبر العصور؛ أصلها وتطورها ومستقبلها. ترجمة إبراهيم نصحي. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2014
هندي، روبرت، وجوزيف رتبلات. أوقفوا الحرب: إزالة النزاع في العصر النووي. ترجمة أمل محمود. بيروت: شركة الحوار الثقافي، 2005
والتز، كينيث ن. الإنسان والدولة والحرب. أبو ظبي: مركز أبو ظبي للغة العربية، 2013
[1] Sociology
[2] Numa-Denis Fustel de Coulanges
[3] La Cité antique
[4] Bronisław Malinowski
[5] Kenneth Neal Waltz
[6] Man, the State, and War
[7] Peter Rawson Taft
[8] Baruch Spinoza
[9] Norman Angell
[10] Robert Hinde
[11] Joseph Rotblat
[12] War No More
[13] Stockholm Environment Institute
[14] Maximilian Karl Emil Weber
[15] Karl Heinrich Marx
[16] David Émile Durkheim
[17] Green peace
[18] https://shorturl.at/shZI2 كما شوهد في 30 كانون أول 2024
قد بدأ المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب الباردة عمليات تدخل لأهداف إنسانية
وإذا كان ينظر إلى الحق في التدخل على أنه جبهة أخلاقية لحماية مصالح القوى العظمى، فقد جرى توسيع نطاقه باسم الحرب على الإرهاب، بعد أن كان يراد له أساسا وضع نهاية عاجلة لأعمال العنف الشاملة التي يكتوي المدنيون بنارها، وصار مفهوم التدخل الدولي يأخذ صيغة الحرب الوقائية.